حملة "الحوار".. الأجندة والآمال!


مرة بعد أخرى تتعالى أصوات السياسيين الموريتانيين مناديةً بالحوار، معلنة استعدادها للدخول فيه وإنجاحه دون قيود أو شروط، فيتهلل المواطنون خيرا لهذا الإعلان، ظنا منهم أن صفحة "التناحر" بين أقطاب المشهد السياسي قد طويت، لكن لا تلبث تلك الآمال حتى تتلاشي كفص ملح ذاب.

وفي هذه الأيام يعيش كثير من المهتمين بالشأن السياسي في البلاد حالة نفسية تمتزج فيها صُبابة أمل خافت بسيل يأس جارف، بعد أن أصبحت كل المعطيات تشير إلى إعادة إنتاج حالات الاستعصاء المتأصلة محليا، وكأن المشكل المطروح في الساحة السياسية الوطنية أكبر من الحل.
 وقد كثفت الحكومة في الأسابيع الماضية نشاطاتها الداعية للحوار من خلال أنشطة ومهرجانات شعبية نظمها الوزراء وكبار المسؤولين الرسميين والحزبيين، حيث جاب بعضهم أماكن نائية من التراب الوطني لشرح أهمية الحوار وضرورته، فيما أقام آخرون تجمعات في العاصمة لإيصال الرسالة ذاتها تقريباً، والتي تعبأت أيضاً وسائل الإعلام الرسمية لإيصالها للرأي العام، في جو دعائي وتعبوي يكاد يكون غير مسبوق في التاريخ المحلي.
 لكن من هم بالتحديد أولئك الذين تستهدفهم حملة الترويج للحوار وتسعى لإبطال أطروحاتهم المناهضة لمبادئ الحوار وقيمه؟
 إذا كان الأمر يتعلق بالمعارضة فهي أيضاً تتحدث عن الحوار وتطالب به، وقد سبق أن شاركت فيه مرتين مع النظام، لكنها طالما اتهمته بعدم الوفاء بمخرجات التجربتين السابقتين. ففي كل مرة تعلن المعارضة نيتها دخول الحوار وتتعهد بالمضي قدما في نهجه، إلا أنها سرعان ما تخرج منه بشكل فجائي مشككة في نوايا الطرف الآخر، ومحملة إياه مسؤولية اضطرارها لمقاطعته.
وفي مثل الأجواء الحالية التي تعلو فيها الصرخات الداعية للحوار من جانب السلطة وأحزابها، يقف المتابع للأحداث عاجزا عن فهم الاستعداد "التصالحي" المعلن و"النية المبيتة" لدى البعض، دون أن يتمكن من الإمساك بالخيط الرئيسي لخيوط اللعبة المتداخلة والمتشابكة على نحو غامض ومُحيًر..!
وفيما تجند الحكومة كافة طواقمها الإعلامية والسياسية، لإعلان إطلاق الحوار والترويج له، أحفإن السؤال الذي ينبغي طرحه هو: ما الذي يجعل المعارضة تشكك في نتائج حوار لم تبدأ اجتماعاته بعد؟  
 بيد أن الناظر في مسيرة الحوار الوطني منذ انقلاب 8 اغسطس 2008 يجد أن وجود ظروف ضاغطة داخلياً وخارجياً، كان عاملا حاسما في دفع الأطراف نحو طاولة الحوار. ففي تجربة دكار كانت هناك أزمة وجد الجميع أنفسهم في مستنقعها عقب استيلاء الجيش على السلطة، ما أحدث خلطاً كبيراً في أوراق اللعبة الداخلية ووضع البلاد تحت طائلة الحصار والتداخلات الخارجية، فيما كانت السلطة القائمة غير شرعية والمعارضة لا تمتلك القدرة على تغييرها، وبات الجميع مضطرا للدخول في مسار داكار الذي أفضى إلى اتفاق تم من خلاله تشكيل حكومة وفاق وطني، وإجراء انتخابات رئاسية في أقل من شهر، فاز بها مرشح السلطة الجنرال المستقيل يومها محمد ولد عبد العزيز، لتعلن المعارضة إثر ذلك تعرضها لاحتيال خارجي وتزوير داخلي.
أما المحطة الثانية للحوار فانطلقت في عام 2012، في ظل انقسام داخلي للمعارضة، إذ ذهب جزء منها إلى محاورة السلطة، وهو ما أوجد أحزاب "المعاهدة" التي تمخض حوارها مع السلطة عن اتفاق على بعض التغييرات والترتيبات الإجرائية المتعلقة بالانتخابات التشريعية والبلدية، لكن أحزاب المعاهدة عادت لتعلن أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز لم يفِ بأي من مخرجات الحوار، وأنه المسؤول عن التزوير الواسع الذي عرفته الانتخابات البلدية والبرلمانية.
وفي هذه المحطة من مسلسل الحوار، كانت أحزاب المعاهدة تسعى لسحب البساط من تحت الحزب الرئيسي في المعارضة (تكتل القوى الديمقراطية) وتطمح لقيام حكومة وفاق وطني تكون جزءاً منها كممثل للمعارضة.
أما السلطة فقد سعت من جانبها في هذه المحطة لاستئناف الحوار استجابة لمتطلبات المانحين الغربيين الذي اشترطوا قيام حوار بين كل الأطراف، فضلا عن إشراك المعارضة في الانتخابات البلدية والنيابية بغية إضفاء الشرعية اللازمة عليها.
 وهكذا يتضح أن الحوار تطلب في كل محطة من محطاته وجود ضغوط ودوافع داخلية وخارجية، لكنها في كل مرة لم تكن من القوة بحيث تكفي لدفع الجميع نحو الانخراط فيه بشكل جاد وذي مصداقية.
أما النسخة الثالثة من الحوار الجارية حالياً، فتعود إلى عام 2013 حين بدأت الحكومة إجراء اتصالات مع المعارضة تناولت أجندة الحوار وجدوله الزمني، لكنه حوار لم يتجاوز جلسته الثانية فانسحب منه ممثلو "المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة" حين لا حظوا أن السلطة أرادته حواراً بين المعارضة والموالاة، والتي ينظر المنتدى إلى أحزابها باعتبارها أحزابا كرتونية تابعة للسلطة مؤتمرة بأوامرها وليست طرفاً ذي صلة أو صاحب قرار.
وبعد فترة من الجمود عادت الاتصالات مجدداً بين الجانبين، وحددت الحكومة موعد الحوار، وأرسلت دعوات لأحزاب المنتدى، فرأى في ذلك الإجراء استخفافا من جانب الحكومة ودليلا على نوايا غير جدية. لكن الحكومة واصلت عملية إعدادها للحوار، وحين تأكد لها مُضِيُ المعارضة في قرارها بمقاطعته غيرت عنوانه من حوار إلى مجرد أيام تشاورية نظمتها بمشاركة الأحزاب والشخصيات الدائرة في فلكها.
وبدلا من الاكتفاء بالأيام التشاورية وما تناولته من موضوعات وخلصت إليه من توصيات عامة، تقرر إطلاق حملة من أجل التعبئة لحوار آخر يتم تنظيمه في غضون الأسابيع القادمة. لكن الطرف الرئيس إلى جانب السلطة، ألا وهو المعارضة، قاطع تلك التحركات والحملات التعبوية كلها دون استثناء بِتَعِلًةِ غياب الثقة في الطرف الثاني، أي السلطة، أو لأسباب أخرى غير معلنة تتعلق بتراجع شعبيته، لاسيما بعد أن خسر رهانه في حشد الشارع بغية إجبار الرئيس محمد ولد عبد العزيز على الرحيل قبل ثلاثة أعوام من الآن.
أما النظام فدوافعه للحوار متنوعة وغير معلنة، ففيها ما يتعلق بالحصيلة المتواضعة لإنجازاته الاقتصادية والاجتماعية، قياساً إلى وعوده فيما يتعلق بالقضاء على الفقر والبطالة، ومحاربة الفساد، وتعزيز النمو الاقتصادي، والرفع من مستوى الحياة المعيشية للسكان، وتطوير البنية التحية، وغيرها من الوعود التي أطلقها خلال السنوات الست الماضية والتي لم يتحقق الكثير منها. زد على ذلك دافعاً آخر، ولعله الأهم، وهو المتعلق بالمأمورية الثالثة للرئيس، والتي لا يسمح بها نص الدستور. ولذلك جاءت مؤتمرات الحوار والأيام التشاورية وغيرهما من الحملات تمهيداً ـ ربما ـ لإيجاد وتحفيز مطالبات شعبية بتغيير الدستور، بما يفتح الباب أمام ولاية رئاسية ثالثة، يثير سيناريو الوصول إليها مخاوف البعض على ضوء ما حصل في دول أخرى، مثل بوركينا فاسو، وبوروندي، والكونغو برازفيل.

فهل يفتح الحوار أفقا جديداً لموريتانيا، تتخطى فيه عثرات السنين وعقبات الإخفاق، أم يكرس أجندة الأمر الواقع ومكائد النخب في إبقاء مصالحها بلا حساب لمصالح الوطن؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق