مداءاتُ حُلم/ ح 1

بدأتْ ساعة الصفر   متثاقلة الخُطى، تمشي ثوانيها ببطء شديد، كأنها سجين بريء سيق إلى مِقصلته على يد سفًاح ...!
في لحظات الضعف "الإنساني" تنتابك هواجس من كل صوْب، فتنهش ما تبقى من صُبابة تجلد لم تكن بذاك أصلا، وهذا ما حصل عند مدخل المطار، صُحبة بعض المُوَدِعين الذين يُحبون ارتياد هذا الطريق في حالة عفوية قبل أن يطوف طائف هجرة من غير ميعاد.

نزلتُ وقد ظاهرتُ همومي وحقيبتي على كاهلي، وبدأت أشُقٌ جمعاً غفيرا من الناس مُتجها للحرسي الرابض على باب المدخل، وأثناء ذلك مررت إزاء شابيْن ربعيْ القامة، متوسطيْ الحال، لا يبدو أن الأيام نظرت لهما برفق وإن كانا ـ مع ذلك ـ لم يعدما رونق الشباب الحالم بغد أكثر نضارة ورقة.

 رمقني أحدهما بنظرة مُبْهَمَةٍ إن أنا وُفقت في فك طلاسمها، فهي من شابٍ عازم على الضرب في مناكب البسيطة منذ بعض الوقت، لكن الظروف المتعنِتَةَ ما زالت تعترض سبيله غير آبهة بحُلمه المؤجل، وربما رأى في إنسان بسيط مثلي باعثا جديدا في إمكانية انبلاج فجر ذلك الحلم يوما ما.

بعد إجراءات روتينية أفَضْتُ إلى قاعة الانتظار وانتبذت مكانا قصيا في نهاية الطابور، وبينما أنا أتصفح وجوه الغادين والرائحين التقت نظراتي بنظرات أخرى قادمة من الخلف تخترق طوابير طويلة كأنما تبحث عن شيء ذي بال ضاع فجأة دون أن تشعر..!

بينما أنا أفكر فيمن سيكون هو، رأيته يُغِذُ السير نحوي بجد، وقد رسم ابتسامة وضيئة على محياً  صبوح. بدا أربعينيا معتدل القامة لا سامق فاحش، ولا حِزقًة قميء، لونه يستعصي على التوصيف، جمع إلى الصُفرة شائبة حُمرة خفيفة، 

فخرج كائنا غير هذا ولا ذاك، كان وسيما بما يكفي، رغم أن الحلاًق تفنَن في رأسه ولحيته بشكل لا يُظهره مُغرقا في "الشبابية"، ولا مُوغلا في "الكهولية" ولو وُجد ـ في تلك الليلة ـ من يمكن أن ينال ثقة الشباب بمظهره، دون أن يثير حفيظة الشيوخ لكان هو.
 ربًت على كتفي بلطف مناديا باسمي مُسَلِماً ومُرحِبا، فرددت عليه التحية بأحسن منها، ثم رمقته بشكل خاطف فإذا هو أخو  صديق حميم لي جمعتني وإياه أيام الطلب في كلية الآداب، وتوثقت عُرى صلتنا أكثر فيما بعد.

جلس على المقعد إزائي وتجاذبنا أطراف الحديث، فسألته عن "الإخوة" و"الأحباب"، وسألني عن دواعي السفر وإلى أين هو، ثم أردف:

هل هي أول مرة تسافر فيها، فأجبته هازاً رأسي أنْ نعم، ثم قال، أنا مسافر على متن الخطوط ذاتها، ومتجه إلى الدولة نفسها، 


فانزاحت هواجس كثيرة كانت تُلبد سماء النفس، وأخذت في التلاشي مثل كابوس مُرعب ظن صاحبه أنه مُلقىً من شاهق ثم استيقظ فإذا هو  على فراشه. كل ذلك كان وفي حافتنا زُمرٌ من الناس مُعظمهم في ميْعة الشباب، حديثهم الهجرة، وهاجسهم العمل، منهم من يغادر لأول مرة ومنهم من اتخذ المغترب موطنا.

ففي تلك الأوجه الشبابية التي تُكِنُها قاعة الانتظار بمطار نواكشوط  ـ  تلك الليلة ـ خير آسٍ لمن في نفسه "حَزًازٌ من الوجد حامز" على مفارقة الوطن، وفيها يتفرس المرء من عيون الحاضرين صواب  اتخاذه قرارَ الرحيل.

في حدود الساعة الثانية فجرا، أعطت صفارات رجال المطار عقيرتها كامل الحرية في المُكاء، منادية على المسافرين بالتوجه للطائرة، فخرجنا قاعة الانتظار  ضمن جمع من الناس، فإذا نسماتُ بردٍ خجولة تداعب الخياشيم مؤذنة بشتاء واعدٍ ما زال يحتمي خلف أيام قليلة متبقية من اكتوبر.

صعد الجميع الطائرة، وانتبذتُ مكانا قصيا ـ كالعادة ـ قرب نافذة صغيرة لألقيَ منها نظرة وداع على المدينة، وفي تلك الأثناء انبعث من أعماق الضمير همسٌ خفي ينادي في خفر:

أمازلت مُصِراً على مفارتنا، لِمَ لا تحير جوابا كأنك جثة هامدة، ثم أضاف في صوت تخنُقه العَبَرَاتُ وتملئه الحشرجة والاعتذار:

 تذكرْ بُنَيِ أن الأب قد يقسو على ابنه حينا، ولكن له حضنا آمنا، وقلبا خفوقا مليئا بالحنان، لا يجد الإنسان أكثر منه سعادة مهما تلقفه من أحضان. وفي تلك اللحظات المُخَضًبَةِ بالمشاعر الأبوية لا يَسعُ المرء إلا أن يكون آذانا مُصغية لتوسلات الوطن/ الأب، محاولا مسح دموعه الهَتُونُ، موقنا أن إهماله وعدم مواساته لآلامنا وجراحنا لا يضاهيه في القساوة سوى امتناعنا عن الصفح عنه.

مددت يديً بقطعة من لفائف "اكلنكس" أمسح دمعتيْن مخضلتيْن كاتنا قد اختطتا طريقيْهما من مِحْجَريْ الوالد، ثم انبعث حفيف حلوٌ  تبين أنه إعلانٌ يُقِدٍمُ طاقم الطائرة، وانتصب عاملا الخطوط لشرح كيفية الاستفادة من سُترة النجاة، ثم بدأت الرحلة من عالم الضيق إلى عالم آخر أكثر رحابة.
أخذت عاصمة المنكب البرزخي تتوارى رويدا رويدا وتتضاءل أمام الناظر، وبدأت شموعها في الخفوت، وعند آخر نقطة ضوئية يمكن للعين المجردة رؤيتها، وجدتُني أردد ـ رغما عني ـ مع القاضي أبي محمد عبد الوهاب بن على بن نصر المالكي البغدادي.

سلامٌ على بغداد في كل موطن(**) وحُقَ لها مني السلامُ المضاعَف
فو الله ما فارقتها عن قلىً لها (**)   وإنــي بشــطـيْ جــانــبيْهـا لــعـارف
ولكنـها ضاقت علي برحبها  (** )  ولـم تكـن الأقـدار  فـيهـا تسـاعـف
فكانت كَخِلٍ كنت أرجو دُنوًهُ ( ** )  وأخــلاقـه تــنـأى بـه وتـخـالـف

اعتدلت الطائرة في جَوِهَا مثل كفتيْ ميزان، وصَفًتْ أنجنحتها في الفضاء الرحب، كأنما تستحثهما على طي المسافة، ثم مازالت على تلك الحال بُرْهة من الزمن، حتى تسلل طائفُ نُعاسٍ إلى معظم الركاب، فانكب بعضهم على مقعد صاحبه، كطالب كسول في محاضرة أستاذ بكلية القانون، بينما حاولت طائفة أخرى أن تتكئ مُسندة ظهورها إلى الخلف.
 وبينما هم في أحلامهم الوردية تلك، اقتحم عليهم هدوءهم صوت دافئ قادم من أمام ينشد: "سيداتي سادتي بعد لحظات ستحط بنا الطائرة في مدرج مطار هواري بومدين، الرجاء الانتباه"، انتفض الجميع كعصفور بلله قطر، ثم اشرأبت أعناقهم لما هو قادم.

أبوظبي / 30 اكتوبر/ 2015


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق