رِعاع المساجد...!

لا أكاد أدخل المسجد الذي بجانبنا مرة، حتى أجدُني في فئام من الناس ما إخَالُهم إلا وعولَ شياطينٍ في أُدُم بشر، سِيقُوا لصرف المصلين عن أن ينعموا بلذة الركون لهذه الطاعة العظيمة.
كنت إزاء سارية في المسجد، فإذا بأحدهم يخلع نعله هامًا بدخول الصف، وما إن استوى ناحيتي حتى عم المكان رائحة كثيفة استقرت في مُقدم مِنْخَرِي، فما زالت تؤذيني حتى كدت أقلس روحي، وأنسى ما جاء بي، لولا أن ربك سلًم...!

خرجتُ المسجدَ عليل الروح، مغتم الخاطر، كئيب القلب، أُقَلِبُ البصر كرًتين، علٍي أجد من نائبتي مَخْلصا، ثم عدت للبيت فأقمت الصلاة، وربما استغل الشيطان ضعفي، وذهب بي مذاهب شتى، حتى وقع ـ ضمن محفوظاته المتنوعة ـ على  فقرة من مقدمة "الصداقة والصديق" لشيخنا التوحيدي ـ قدس الله سره ـ كنت قد قرأتها سالفا، إلا أن طول العهد بها كاد يوهمني سمُاعها لأول مرة، ألا وهي قوله واصفا نفسه:
"لربما صليت في الجامع فلا أرى جانبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقًالٌ، أو عصًارٌ، أو ندًافٌ، ومَنْ إذا وقف بجانبي أسْدَرَنِي بصنانه، وأسكرني بِنَتْنِهِ".
على أنني أكاد أرمُقُ الشيخ صريعا عند إحدى سواري المسجد، لفرط ما حاق به من نتن القوم، حتى غفل عن رسم صورتهم بشكل أكثر دقة، على النحو الذي انتهجه أبو عثمان في "بخلائه"، حتى يغوص في كنه حقيقتهم، ويكشف مقدار ما عليهم عليه أمام المصابين بالزكام "الماحق" في زماننا هذا...!
 والذي يتبدى لي أنه إنما كتب تلك السطور بعد ذلك بفترة، حين انكشفت غُمتُه، وزالت "مُعايشته" لتلك اللحظة النتنة، فَجاء تعبيره فاتراً عن الإحاطة بها لعدم تقمٌصها آنيا، لا ضعفاً في أسلوبه وتفكيره العميق.  
كأني بالتوحيديأ شيخا أنيقا، لطيفا، يدير ظهره لإحدى سواري الجامع، وفي حافته زُمَرٌ من الناس يحدثهم في الأدب، والفلسفة، والتاريخ، وغالبا ما إذا أعياه الشرح للعوام، وازداد الأمر انغلاقا بالنسبة لهم، خرج مُتأففا ضنا بالعلم على غير أهله.  
والذي يظهر أن شكوى التوحيدي يدا الدهر لا تعود لقلة الناس أو انعدامهم في المساجد في تلك الآونة، سيما في الحواضر الكبرى كالبصرة وبغداد، وإنما هي نفثة صامتة من أعماق رجل خبِر الناسَ والأيامَ، ولا يتأسف على شيء تأوهَهُ على فقد صديق مُشاكل، أو حميم مُلاطف !.
على أنني لا أعلم لهؤلاء "الرعاع" فضلا، ولا أرى لهم إكبارا، سوى ما أُعاينه حين خروج الناس من المسجد، بعد أن انطفئ فيهم ذلك الألق السماوي المُشرق، وأخذوا في انجذابٍ مهطعين لمعدنهم السفلي، كالهيمٍ العِطاشٍ المتدافعة على صُبابة ماء، ساعتها ترى الناس وقد أفسحوا لهم الطريقس، خوفا من أن يُحيق بهم من الأذى ما لا يستطيعون له دفعا.
ففي ازدحام الناس آنئذ يتمنى المرءُ كما لو فقد حاسة الشم وخُلِقَ دون منخر، فحاجته للسلامة أشد من حاجته للتنفس...!
لو قُدر لهؤلاء فهمُ ما للجانب النفسي من تأثير حاسم في أداء العبادة، لرموا بأجسادهم المتعفنة وملابسهم النتنة في أكبر المعامل الباريسية للعطور ـ وما أراها ستنفعهم ـ ولا استوعبوا بشكل أدق كيف نهت الشريعة عن صلاة المتثوم في المسجد، ولتعمقوا في إدراك المغزى من وجوب الطهارة، وسُنٍيًة غُسل حيث اكتظاظ الناس، ولا اتضح لهم عِيانا دور النظافة في"أَنْسَنَةِ" الإنسان.
 فنظر الإسلام للإنسان نظرٌ شمولي، يكتنف حقيقته في بُعديْها المادي والروحي، لما للعلاقة بين الاثنين من عظيم التأثير والتأثر، فالإنسان في أرقى تجلياته ملَكٌ في أديم حيوان، تتنازعه خلًتان متباينتان، كلما أفلحت إحداهما في قَهْرِ الأخرى، كلما ارتقت به في مدارج "الملائكية" أو هوتْ به في الدرك الأسفل من قاع "الحيوانية".
والذي يظهر أن السواد الأعظم من "رعاع مساجدنا اليوم"، إنما غلبت عليهم لوثة الحيوانية حتى كادوا الانسلاخ من لبوس الإنسانية الحقة، لولا أثارة بسيطة توشك على الامِحاء في وجه طائفِ الحيوانية القاتل.
كل ذلك بسبب تخلي الأئمة والخطباء والوعاظ، عن دورهم في إنارة عقول الناس، وتعليمهم جملة الآداب التي ينبغي التحلي بها حالَ ارتياد بيوت الله، حتى تُؤدى العبادات على أتم الأوجه، وحتى لا يتأذى المصلون فيدفعهم ذلك للتخلف عن المسجد فيما بعد.
    


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق