ساعات مع بن زيدون

ساعات مرت كلمح البصر …تلك التي قضيتها  في الحدائق الغناء، صحبة الوزير أحمد بن غالب المخزومي، المكنى بأبي الوليد بن زيدون.

خلال الجولة السريعة التي قمت بها في ديوان الوزير،خلته  وقد أصطحبني في جولة  مسائية داخل مدنية قرطبة الجميلة،وتحت  ظلالها الوارفة حدثني عن مدى افتتانه بالطبيعة،وسرتعلقه بها،وأسمعني بلحنه الشجي شذرات متناثرة من روائعه الغزلية الفريدة… “أضحى التنائي” وأشفع ذلك بأسلس ما صاغته  قريحته  من شعر الطبيعة، في “إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا”.
أخذ يرتل على مسامعي في صومعة الجمال تلك ، أروع مانسجته يده الماهرة،فأبان عن موهبة فذة،وافتتان بالطبيعة لايعرف الحدود …لكن أكثرما راقني في  حديثه المنتظم حباتَ الزبرجد في عقد الروعة، ازدواجية خطابه بين  الحب ومرارة الصدود،وبين دنوً  الحبيب عاطفيا ،وتنآئي مزاره واقعيا،وبين ألم الواقع،وأمل المستقبل.
لكن انقسام حياة الرجل إلي شطري التوازن والاضطراب، أكسبه دراية بالحياة ومئالاتها،فلم تعد بروق الوصال الخلَب تخدعه،ولم يعد جهام الضربات “الصميمة” المتتالية التي سدد له الزمن أمرا يثير استغرابه.
ما الذي يطلبه بن زيدون من الدنيا بعد أن زاحمه “الطفيلي” بن عبدوس على ملهمته ولادة ، بعد أن أبلته في الحلقات الأدبية،فأظهر براعة عز نظيرها،  فركنت إليه،واختارته وارتضته بين كثير من الأدباء،و سخر لها من شعره ما ينوف عن الثلث …  فاستعطفها واسترضاها بكثير من روائع الأدب التي ضن الزمان أن يجود بمثلها،وعجزت أرحام “الإبداع” أن تلد مثلها.
ما الذي يرجوه من الزمن بعد أن أغرى به المتربصون  بن جهورفاتهمه بالميل نحو المعتمد بن عباد، وحوله من سفير من علية القوم ،لاتعزب عنه صغيرة ولاكبيرة من شأن الإمارة، إلي شخص  غير مرغوب،يشكل خطرا على استمرار الدولة،ويعمل لصالح جهات أجنبية،ثم بعد ذلك لم يجد بدا من إدخاله غياهب السجن خلف قضبان الزنازن الصدئة، فاستعطفه لكنه كان من أصحاب القلوب “الصخرية” التي لا تعرف  العطف،ولا تعرف “رحمة عزيز قوم أذلته الأيام”.
بعد خروجه من السجن ،وبعد أن جرعته الأيام كؤوسا مترعة من صدود الحبيب وجفائه،  وبعد  أن فعل النمامون به فعتلهم مع أميره الأول، اضطر للمغادرة والعمل تحت إمرة المعتمد صاحب اشبيلة،فتخلف إليه وولاه وزارته وأقام معه معززا مكرما بقية عمره، إلى طوته يد المنون عن كوكب الحياة في الرابع من ابريل  .463 هـ. 1071م.
شكرا “للطفيلي” بن عبدوس،وللأمير بن جهور،وللأديبة ولادة،وللزمن الذي قلب لك ظهر المجن … ولكل اللذين جفوك وأهانوك، وآذوا شعورك حتى جدت لنا بكنوز ما كتبت وما خلفت،  فلولاهم ما سطرت إبداعك في صحائف الخلود المتجددة على مر الأيام، ولولاهم ماعرف الوزراء والأدباء من أين تؤتى المكارم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق