العدَسة الجاحظية

لم أَرَ فيما كَتَبَ القدماء ولا المحدثون، أشد طرافة، ولا أقرب للنفس، ولا أكثر إضحاكا من كتاب البخلاء لأبي عثمان الجاحظ.
ففي ثناياه نَفْسٌ شفافةً، أوتيت ملكة التعبير والنفاذَ لأعماق النفس، واقتناص لحظات لا يستطيع أي مِجهر اكتناه حقيقتها، واستجلاء غوامضها.

فالتصوير عنده لا يقتصر على رسم الأشكال الحسية و تقاطيعها الخارجية فحسب، بل يذهب أبعد من ذلك حدً نحت المعاني وتجسيدها كلماتٍ لغويةً مفعمة بالحياة، تكاد تسعى على قدمين، وذلك مظهر من مظاهر قوته وسر من أسرار إبداعه.
فجميع الكَتَـبَةِ لا يكادون يختلفون في تصوير “الحِسٍيًات” اختلافا يذكر، لأنهم أمام حالة ثابتة مجسدة في الواقع أصلا، لكنهم يسلكون سُبُلاً شتى إزاء تصوير “المعنويات” ويتفاوتون في رسمها وتقريبها، وتلك ـ لعمري ـ هي الحُظوة التي خُص بها أبو عثمان فأكسبته شَأْواً يعز على غيره من الأدباء.
فهو لا يقع في الخلخة التي تعتري المتأدبين، عندما يسقطون في المحتوى اللغوي “الفضفاض” الذي ترتج داخله الفكرة الضئيلة، مثلما يتماوج صبي نحيل في ثوب رجل بدين، بل يتفادى ذلك بالمطابقة بين الإثنين على نحو يجعل كلاً منهما  يأخذ حظه من الآخر، فتحس الفكرة وضعت في قالبٍ صُمم على مقاسها أصلا.
إن استخدام الأداة “الكاشفة” عند أبي عثمان  يخضع لأحدث الفنيات،فهو ينفذ لعمق المشهد الأهم دون إغفال اللقطات الثانوية، حتى يُتيح للقارئ مُعايشة اللحظة بكل أبعادها، وليأخذ صورة مفصلة عن الظروف التي اكتنفت حدوثها.
ولا أدل على عمق تصويره، وجمالية أسلوبه، من أنه استطاع انتشال الأدب من قصور الأمراء، وكُبراء الساسة وعليِة القوم، وإدخاله مجالس العامة والدهماء(البخلاء، المُكدين…) دون أن يسقط في “الهامشية المنحطة” أو يَخْرِقَ ما سُمِي ـ وهْماً ـ بالذائقة العامة للمجتمع.
زد على ذلك أنه لولا الأسلوب التصويري الرائع، والروح الفكاهية الخلاًقة، ما استطاع أبو عثمان تحسين القبيح، (البخل) وجعل أصحابه (البخلاء) ناسا عاديين كما البشر، فالثقافة العربية تَمْقُتُ البخل وتراه انحدارا في مهاوي المنكرات الأخلاقية، كما يعكس ذلك بوضوح ثراء شعر المدح في تاريخ الأدب العربي.
إن تعدد الأصوات “الباخلة” في الكتاب، يعكس ثراء في المضمون، وغناء في الصورة الشعرية، ويرسم أيقونة فريدة لمجالس البطًالين في حاضرة البصرة آنذاك، في منحى إبداعي فريد أصبح الأدباء يحتذونه في كل مكان وإنْ بتصحيفٍ طفيف، يستبقي روح الأصل ويغترف من معينه الزلال (موليير في مسرحية البخيل).
إن قيمة هذه الأيقونة تتجاوز الجانب الإبداعي، وتؤصل لجنس أدبي “باخل” ما كان له أن يظهر لولا جراءة الجاحظ وسعة اطلاعه، وروحه الفَكِهَةُ التي لا تعرف الحدود، فهو كتاب حقيق بالإعجاب، وصورةٌ متعددة الزوايا، تمكن قراءتها  في أكثر من وجه.
ولعل هذا ما يفسر قول الجاحظ في مقدمة “البخلاء” مخاطبا من أهداه الكتاب ولم يَبُحْ باسمه، منبها على قيمته العلمية، “وذكرتَ أنك إلى معرفة هذا الباب (حيل اللصوص، نوادر البخلاء) أحوج، وأن ذا المروءة إلى هذا العلم أَفْقَرَ، وأني إن حَصًنْتُ من الذًم عرضك، بعد أن حصنتُ من اللصوص مالك، فقد بلغتُ لكَ ما لم يبلغه أبٌ بارٌ، ولا أمٌ رَءُوم”.
فالكتاب ـ في مجمله ـ رسائل توجيهية (أخلاقية، اجتماعية، فكاهة…) مَكْسُوًةً بطابع التًفْكِهَةِ الأنيق،إلا أن ذلك قد لا يتنافي مع الكتابة الإبداعية (السبق التأليفي) التي ربما تكون هي الدافع الأبرز وراء الكتاب، إذ لم تُسعفنا المراجع ـ حتى الآن ـ بكتاب في هذا الجانب، وإن كان وُجِدَ فعلاً فلم يكتب له القبول الذي حظي به “البخلاء”.
رحمك الله يا أبا عثمان…!
* منشور في وكالة الأخبار المستقلة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق