في الطريق إلى داكار

أخذ الغبش يتبدد رويدا رويدا، وأخذت رقعة الضياء تتسع ، كالمشيب الذي يغزوا هامة شديد السواد متداخلة النبات، فمازال بها حول سوادها الفاحم أبيض ناصعا .

عم الضياء الأفق وبدا كل شيئ على حقيقته،و اتضحت أزقة” الصطارة” ومبانيها، فما هي إلا لحظات قبل أن تطلع الشمس معلنة عن يوم جديد.
كانت السماء صافية ،والجو معتدل،وكانت نسمات الجنوب تداعب النفوس العليلة وتحرك المشاعر، لكنها كانت تنكأ جروحا دفينة وتحرك من البلابل والذكريات أكثر مما تشفي.
بعد ذلك بوقت يسير وجدتني أترجل متئدا نحو المعبر، لحظات قليلة وأنا عند بابه الشمالي.
دخلت الباب ـــ وكنت ضمن آخرين ـــ في انتظار العبارة،كنا نحسب الثواني بالسنين … كان كل منا ينظر للذي بإزائه قائلا :
ألم يحن وقت الذهاب،فيرد الآخر في هدوء ،أعتقد أن العبارة تستعد للسفر ولاينقصها سوى إجراءات بسيطة،لحظات قليلة فإذا بربان السفينة ينشطونها من أغلالها التي كانت  ترسف فيها،وينادون على المسافرين بالصعود.
بدأ المسافرون بالتوافد من كل حدب وصوب ،وكأنه الحشر الأكبر، كل يستعد لأخذ مكانه،أخذت السفينة تتأهب للسفر بعد أن جمعت على منتها من كل زوجين اثنين … ناس من مختلف الأعمار والألوان … سيارات كبيرة وأخرى صغيرة … كانت الطائفة الكبرى من على ظهر السفينة من الود،وكنت أنا وأبي وثلة قليلة من البيض كباقي الوشم في ظاهر اليد بينهم.
بدأت السفينة ترزم فأعلن الربان انطلاقتها ،فبدأت أتجول داخلها بدافع الفضول طورا، والخوف تارة أخرى، فرأيت العلم المنصوب على متن السفينة وهو يرفرف في السماء، فانتابتني لحظة فخر فتذكرت منشدا.
رفرف بــــــلا تردد…… أبقاك رب الأعبد.
رفرف فذي أرواحنا….. فداك أغلى ما فدي.
واصل الربان قيادة السفينة وهويشق عباب الماء بحيزومها فما هي إلا لحظات حتى أصبحنا على الضفة الأخرى،في عالم أخر وفي مكان أخر، بدأت ملامح الحياة تتغير بالنسبة لي ، تنكرت كل الدروب وتغيرت،وأصبح للحياة طعما آخر.
بعد كثير من اللف والدوران توجهنا لمرآب عالم، بحثا عن سيارة تقلنا صوب داكار،كان صاحب السيارة زنجيا تبدوا عليه نضارة الشباب، وكان خليقا فيما يبدوا،كثير التبسم، معتدل القامة،يحب المسيقا كثيرا،تقرأ من خلال صفحة وجهه كثيرا من الرزانة والأدب،وترى في عينيه نظرة صائبة وذكاء وقادا.
انطلقنا وإياه بعد أن ربطنا أحزمة الأمان، وكانت المفاجئة هذه المرة، أن معظم من في السيارة كانوا من البيض،با ستثناء امرأتين زنجيتين كانتا في المقاعد الخلفية،وكان الحديث طوال الرحلة باللهجة الحسانية،وكأن المجلس مجلس ” بظاني”،لولا المسيقا الزنجية المنبعثة من المقاعد الأمامية التي يوليها الشاب الزنجي “صار” اهتماما كبيرا، كان كلما انتهى شريط جعل آخر مكانه؛ظل ذلك طوال الرحلة من التاسعة صباحا حتى السابعة مساء،لحظة وصولنا لدكار،
كانت السيارة التي تقلنا من نوع 505 خضراء، وكانت رغم طرازها مجهزة بمقاعد جيدة يشعر الجالس فيها بنوع من الطمئنينة والراحة .
كنت طوال الرحلة ــ ونحن في طريقنا لدكارــ أرمق بعض السيارات التي تسلك الطريق إلى جانبنا، ولم تقع العين على أية سيارة حديثة،فتساءلت في نفسي وقلت: لم لا يقتني هؤلاء الناس بعضا من السيارات الحديثة التي أغرقت الأسواق،وهو سؤال ظل يدور في خلدي كلما طالعتني واحدة من سياراتهم القديمة،لكنني عرفت فيما بعد سر ذلك، فالناس اقتصاديون في كل شيئ ولا يكلفون أنفسهم عناء المظهر.
ظل الشاب يواصل سيره دون كلل،وكنت أرى على جنبات الطريق قرى تشبه قرى الريف الموريتاني … كان كلما مر على مدينة ذكر كم تبعد من دكار… إنها سينلوي قالها الشاب بلهجة منهك متشوق للراحة… نزل الجميع بحثا عن نزل … شاءت الأقدار أن يكون صاحب المطعم رجلا موريتانيا أصلع ذا قامة فارعة،وصاحب ابتسامة عريضة،عيناه الغائرتين تحدثان عن رجل خبر الأيام وحلب الدهر بشطريه.
كان المسن الموريتاني يتحدث بلهجة ” حسانية” مكسرة لطول التغرب،وكانت اللازمة الصوتية المتكررة هي ” حكل.
كان الرجل المسن رغم قدم عهده بوطنه يحمل قيم الوريتاني الأصيل، من كرم الضيافة وسمت الخلق، والبشاشة للضيف.
أمر الرجل ابنه محمداـ وكان بإزائه ـ بإعداد الشاي ،فأعده وفق الطريقة المورتانية،وكان معدا على الفحم….  وكان احتساء الشاي ممتعا وجميلا لولا أن صيحات ” صال ” على المسافرين بالصعود كانت هاجسا يكدر صوف ذلك،
ودعته على مضض بعد أن ملئت صيحات “صال” المكان مناديا على المسافرين بالصعود… عاد الجميع إلى السيارة وانطلق “صال” مواصلا سيره قائلا: إنه لا ينوي التوقف قبل الوصول إلى العاصمة دكار.
احتج المسن الذي بجانبي معلقا: إن هؤلاء الزنوج يقدسون العمل حتى ولو كان على حساب الصلاة.
أخذ الجميع أطراف الحديث ودارت نقاشات متعددة الأبعاد والمرامي غير أن “صال ” لم يعلق،بل كان منكبا على مقود السيارة يحرك رأسه كلما استخفه الطرب،وهو يستمع إلى المسيقا الصاخبة.
مل الجميع التجاذب والنقاش وبدا ضوء الشمس خافتا معلنا عن إقبال الليل وإدبار النهار، و بدأ الملل والسأم يتسلل إلى نفوس الركاب إلى حد أن أحدهم سئل السائق أين نحن من دكار الآن، رد السائق بهدوء كعادته نحن الآن في أطراف العا صمة وبعد قليل سنصل…. بدأنا نسلك الطرق السريعة وبدأت ناطحات السحاب تلوح في الأفق،معلنة عن وصولنا قلب العاصمة دكار،فانطوت بذلك صفحة رحلة جمعت في طياتها بين كثير من المتعة والاستكشاف.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق