التقي ولد بلا...فقيد اللغة والأدب

بين وهاد "تنديجمار" وأنجاده وفي رحاب منطقة العقل عموما، كان الناس يتنفسون العربية، ويتغذونها، فتُدُبُ في أجسامهم دبيب الخمر في أوصال السكران، ثم لا تلبث أن تتحول شعرا، ونثرا، وتاريخا، وأدبا، وعلوما عربية أصلية.
لو قدر للحصباء في تلك البيئة أن تتكلم، وللأشجار أن تتنفس، لما همهمت ولا تنفست إلا بالفصحى، ففي تلك الربوع يتلقف الناس العربية اعتباطا، ويتعاطونها عن ظهر قلب..بها يتضاحك الأطفال، وعلى أوتارها تتهامس النسوة في هدأة الليل، عندما يصغي الكون في خشوع تام.

في تلك البيئة أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم وتحديدا في عام (1938) كان الحظ مبتسما، والسعد طالعا، حينما رزق أحمدو يحيى بن بَلا، وزوجته رائعة بنت محمد، بطفل شاءت القدر أن تتم تسميه بمحمد التقي.
بدأت على الطفل أمارات النباهة والنبوغ مبكرا ، فكان حادً الذكاء، قوي الذاكرة، سريع الحفظ، جميل الخط، لا يشق له غبار.
عـــربيٌ قــحٌ
استهل الفتى صارخا بالشعر، على جديلة أترابه الحسنيين الذين عُرفوا ببراعتهم في تعاطي الشعر والأدب، وبين منازل قومه الممتدة  إلى الركيز جنوبا، وحدود أبي تلميت شمالا، وبلاد "العُـقل" غربا، طالما تجول التقي مرددا شعر غيلان ذي الرمة تارة، وشعر النابغة وامرأ القيس آونة أخرى.
نشأ الطفل في أحضان أمه بعد أن اختطف الموت أباه وهو ما يزال غض الإهاب، طري العود..كان لغويا فذا، وشاعرا مُجيدا، ومؤرخا كبيرا، أحكم صِنْعَةَ القوافي في مرحلة مبكرة، فأصبح المجلي في مضمارها، وكانت "مجرى عواليه ومجرى سوابقه".
من ينبوع  الشيخ محمد عبد الله ولد أحمذية، نهل التقيُ حدَّ الثمالى، ثم عب ونهل مرات عديدة على يد أعلام آخرين أمثال محمدن بلا بن احويبله، وسمع كثيرا من محمذن بن عبد العَلاَ، وشيوخ كثيرين.
يقول العارفون بالرجل إنه يأوي إلى ركن شديد في المعرفة، فعندما تراه يتحدث في مجال تحْسَبٌهُ تخصصه الوحيد، لكنهم يجمعون على أن موسوعيته وسعة إدراكه واطلاعه تتبدى أكثر في مجاليْ اللغة والتاريخ، فهما المجالان اللذان بذً فيهما كثيرا ممن تقدموه وعاصروه، وكان صاحب الكلمة الفصل فيهما.
من جيد ما يروى عنه أنه ذات مرة كان بين يدي أستاذ مصري يدرس في ثانوية "لكوارب"، بُعيد الاستقلال بقليل، وصادف ذلك إعلان الدائرة الحكومية هناك وفاة عمدة المدينة، فقال الأستاذ المصري، ألا نعلن الحداد على روح الفقيد؟:
فقال التقي: على من ؟
 فقال المصري: ذكروا أن عمدة المدينة توفي، فأنشد التقي بسرعة بديهته المعروفة:
وأيــسر مـفــقود وأهـون هـالك    على الحي من لا يبلغ الحي نائله.
ثم رد الأستاذ المصري: أشهد أنك عربي قح.
أم ليلى والشعر الحر...
أحب التقي من هذه الحياة جملة أشياء بسيطة، أمه، وزوجه، وشعر غيلان، وآل البيت، والتصوف...
كانت أمه وأم "ليلى" شلاليْ إلهام بالنسبة له، فقد تربى في حضن الأولى وغمرته بحنان الأمومة وعطفها المتدفق،وعاش في كنف الثانية ردحا من الزمن، فرزق منها البنين، فكانتا دوحتيْ حب وارفتا الظلال، طرفاها الأمومة والزوجية، وأنعم بهما طرفين!
عشق شعر ذي الرمة حد التماهي، فكان جزءا من شعوره وكيانه، وسطر في سبيل ذلك شرحا نفيسا يعد أبرز الشروح والتعليقات على شعر ذي الرمة في المنكب البرزخي إلى اليوم، وما زال ذلك الشرح  في رفوف وزارة الثقافة يستنجد أن انقذوني من الضياع.
تجاذب التقي وأحمدو ولد عبد القادر أطراف الحديث ذات أنس، في مجلس خال من أرباب الخنا، ثم أطالا الحديث ولم يَشعرا إلى وقد سال بهم "واد" الأدب الفياض، فاختار ولد عبد القادر أن يعرف مدى تفاعل التقي مع الشعر الحديث فأنشده قصيدة "كوابيس"، ثم سأله عن رأيه فيها، فقال له إن من يحفظ مثل هذا الذي لا يُعلم أوله من آخره يجب عليه أن يحفظ القرآن.
أيـــام كِيد كِار
بُعيد الاستقلال طلب التقي من المختار ولد التقي المشهور بـ "ابب" أن يتوسط له للالتحاق بسلك التعليم، فاصطحبه إلى مكتب الحضرامي ولد حظري وزير التعليم يوم ذاك، وكان الوقت مغربا ــ كانت الحكومة حينها تداوم في الصباح والمساء ـ فوجداه يتوضأ للصلاة، ثم  أسفر اللقاء بين التقي والوزير عن اكتتابه معلما للغة العربية.
في اكصر "كَيْدَكَارْ" كانت أولى دروس التقي على تلاميذه، وكان الزمن صيفا،والحر على أشده، والبعوض في عُرسه، وكان القِرى الأول الذي قٌـدم له من "كَيج"، وهو ما لم يكن في ثقافته  الغذائية حينئذ.
دخل المُعَلِمُ عالما جديدا لم يعهده من قبل...فبدل "العيش الصالح" أصبح يتلقى "كَيْجْ"، وعن حليب البقر الرائب استعاض بِـ "كَرَوْ"، وحلت عبارات السونوكية والولفية محل شعر غيلان، فدخل حياة جديدة، وعالما آخر له خصوصيته، وثقافته، ولغته، فاسودت الحياة أمام  ناظريه، ولم ير من بني جلدته من يقاسمه الغربة ويتحدث إليه بلسان يفهمه، سوى رجل واحد عريض القفا، مكث بين ظهران الفلان أكثر من عشرين عاما دون أن يعي كلمة واحدة من لغتهم.
لم يجد التقي من العودة إلى الشعر بُدا، لكسر "رتابة الغٌـرْبَةِ الداخلية" التي يعيشها، أو لإيهام النفس ــ ربما ــ أنه ما يزال بين الأهل والخلان،  فكتب إلى محمدو النانة ولد المعلى قصيدة يقول فيها.
تحـية نـائي الـدار ثـاوٍ بـغرغلي     مــنازل نُــوبٍ قبـلها لم تـُحَلًلِ.
يتكلم القرآن..
كمظهر من مظاهر فهمه للغة العربية، واستحضارا لمكنوناتها وأسرارها، كان مولعا بالقرآن، وكان كثيرا ما يستحضره في القصص والمواقف، وفيه يتجلى جانب بسيط من شخصيته "الطرائفية".
ذات مرة كان مديرا لمدرسة "بُد" في روصو، وهي مدرسة قديمة متآكلة فقال عنها إنها "بقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، ثم لما أعلمه أحدهم بإحالته للتقاعد من الوظيفة العمومية ابتسم وقال: "ذلك تخفيف من ربكم ورحمة".
وبعد إحالته للتقاعد استقدمه الشيخ الحاج المشري للتدريس في قرية "معط مولانا"، فمكث بها حينا من الزمن، ودرًس اللغة، والنحو، الفقه، والسيرة، والتاريخ، فكان من أكابر شيوخ القرية الذين يرجعُ إليهم في الأمور العامة والخاصة.
استشاره الحاج المشري مرة في شأن أحد الطلاب السينغاليين وقد سرق صندوق التبرعات في المسجد، فأغرى الحاج  به بعض تلاميذته فأمسكوه ثم أحضروه، فطلب الشيخ المشري للتقي أن ينظر في شأنه، ثم قال: "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل".
زاره الحاج المشري في المغرب آخر أيامه في المستشفى، ولما أفاق وهو بين يديه أنشده:
وأعلم أني لم تصبني مصيبة     من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي.
وفي السابع من مايو عام 2007 طوته يد المنون فغادر عالمنا عن عمر ناهز واحدا وسبعين عاما بعد أن أرهقه المرض، فَكُسِفَ قمر اللغة والأدب، والتاريخ، والسير، وأيام والعرب، والفروسية.
رحل عن عالمنا فكان رحيله فاجعة كبرى، وجرحا غائرا يأبى الاندمال، فرثاه الشاعر أحمدو ولد عبد القادر، ولمرابط ولد دياه، وثلة آخرين...يرحمه الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق