ثقافة الاستهلاك السياسي

شيء ما ذكًر المتابعين لمهرجان شنقيط هذه الأيام، بالوجه الآخر لشخصية رئيسنا "المحترم"، وهو مُتَبَتٍل يصغي بكل حواسه لإنشاد الشعر، على وترموريتاني تقليدي في جوٍ يجنح للماضي ويشدٌ للجذور، وهو الذي لم يعرف عنه شغفه بالشعر ولا بالثقافة والتراث.

لا حاجة أشد بنا من أطباء نفسانيين ذوو خبرة عالية في مراس "الأمزجة" وتقلباتها، عسى أن نفهم حرِص سيادته على إطلاق هذه النشاطات وحضورها، أهو بادرة  مصالحة مع التاريخ، أم حسرة على ماضٍ لم يكتب  لصاحبه اطلاع على أي ثقافة ـ أحرى العربية ـ أم صحوة مكانيكي اكتشف أن في الحياة أشياء أخرى أشد طراوة من الحديد ؟.
ظِلنا حتى وقت قريب نسمع منه كلماتٍ لا يبدو صاحبها متذوقا للشعر، وهو الذي أُثِرَ عنه ـ ذات تصريح ـ أن البلاد لا تحتاج الشعراءَ بقدر ما تحتاج مهندسين ومكانيكين، وهي مقولة على جانب من الحقيقة  لو لم يملأ علينا مهندسو البلاد وأطباؤها أرجاء الدنيا ضجيجا طلبا للتوظيف.
لكن ليهنأ هؤلاء الباحثين عن عمل، أن فرصة الرئيس هذه المرة تقتصر على توظيف الثقافة خدمة للسياسة، بعد العجز عن توظيف الشباب خدمة للوطن، وهي بشرى سارة على أي حال ما دام هنالك "توظيف"...! 
لا شيء أزرى على الثقافة من من يجهلها ويتظاهر بخدمتها، وهو في ذلك إنما يفضح نفسه بنفسه، إذ كيف يتسنى لذوي الألباب تصديق مثل هذه الكرنفالات، وما يزال صدى الإساءة  في جدوائية الشكل الثقافي الأبرز (الشعر عندنا) يتردد في الآذان، علما أنه أكسبنا سُمعة طيبة عجزنا ـ حتى الآن ـ عن إحرازها في مجال الطب والهندسة وغزو الفضاء.
ثم أي مصداقٍ  للاعتناء بالثقافة بعد الطعن فيها قولا وفعلا، ولما ننسى بعدُ الهيئة التي طالعتنا ابنته في زيجتها الأخيرة بشكل خارج عن سياقنا الثقافي، ويطعن هويتنا في الصميم، ، في الوقت الذي كان مفترضا أن يكون هو سادن الفكر والثقافة، وعلى عاتقه صون المنتوج التراكمي الذي خلفه الأجداد ولو رمزيا على الأقل.
قد يرى البعض هذا تحاملا كبيرا على سيادته،  وتدخلا في حياته الشخصية، لكن أيا منا لا يعرف أن الشخصيات العامة مِلْكٌ للشعوب، وأن تصرفاتها لا تحسب بالمقاس الفردي، بقدر ما هي تعبير عن رؤى الأمة ومواقفها نظرا للموقع الذي تحتله، لكنها متى ما غادرت قُمرة القيادة عوملت بأسلوب آخر ووجه مختلف ؟.
  إن هذه الإساءة ليست من فرد عادي بسيط، بل من موقع سيادي رمز، أريد له أن يتكاثف ويتسع حتى يكتنف عالما كاملا، بثقافة وفكره، وكيانه الروحي والمادي، وكل ما يصاحب ذلك من متعلقات أخرى، وهنا يكمن الفرق بين نقد الذات الفردية (الرئيس) والموقع (الرئاسة) المجتمعي.
باعتقادي أن تجميع الكنوز المدفونة في المكتبات الأهلية، والاعتناء بطبعها وتنقيحها، والصرف على الباحثين وتكوينهم، ورصد جوائز الإبداع الحر، وتكريم الشخصيات الثقافية والعلمية والأدبية، وإنشاء دور للنشر والمطبوعات، واحترام المبدعين والمثقفين أيا كانوا، ممارساتٌ تنتج الثقافة وتُنَمِيهَا، بشكل أكثر فاعلية ونشاطا وأقل صخبا من ضجيج هذه الكرنفالات التي نشهدها كل عام.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق